في إحدى لحظات الراحة النادرة هذا الأسبوع، تذكرت حديثاً جرى قبل بضعة أشهر بيني وبين رئيس القسم السياسي – الأمني في وزارة الدفاع. أنا أنتمي لجيل الصحافيين الذين لا يزالون يسجلون المحادثات في كراس، وسارعت لتصفحه لأتأكد من أنني أتذكر الأمر على نحو صحيح. وجدت التسجيل، وهكذا قال لي العميد احتياط درور شالوم، رئيس دائرة البحوث في شعبة الاستخبارات سابقاً، في 9 آب: “نحن الآن في 1972. قبل لحظة من المصيبة”.
“غير أن هذه المرة، قال، ليس مثلما في 1972، فشعبة الاستخبارات أصدرت الآن إخطاراً استراتيجياً”. في ذاك الوقت وضعت على طاولة رئيس الوزراء أربع رسائل صاغها من حل محل شالوم في دائرة البحوث، العميد عميت ساعر، الذي حذر من أن “أعداء إسرائيل يشخصون فينا أزمة عميقة وتاريخية تنطوي على احتمال لتغيير دراماتيكي في الميزان الإقليمي. نحن نشخص ثقة متزايدة بالنفس لدى إيران وحزب الله وحماس”، كتب ساعر، “ونشخص مساً بالردع الأساس عقب تآكل العلاقات مع الولايات المتحدة، ومساً بأهلية الجيش الإسرائيلي، وبالاقتصاد وبالوحدة الداخلية”.
في تلك الأيام، لم يهتم الكابينت الأمني بهذه الإخطارات، وأدار مداولات على كمية الشامبو التي يحصل عليها المخربون المحبوسون عندنا. حذرني في حينه درور شالوم: “الاعتداد وتجاهل الإخطارات الاستراتيجية سيودي بنا إلى المصيبة”. تنبأ، ولم يعرف ما تنبأ.
هذه الأمور لا تقلل من فشل ذريع للمنظومة العملياتية للجيش الإسرائيلي والمنظومات الاستخبارية لشعبة الاستخبارات “أمان” و”الشاباك”، التي فشلت في تشخيص التهديد والاستعداد له. في التعابير التي ثبتها تسفي لنير عن مفاجأة حرب يوم الغفران، شهدت إسرائيل في السبت الأسود مفاجأة أساسية أخطر بكثير من مفاجأة 1973. جيشان مصريان هاجمانا في 6 أكتوبر في 1973 لم ينجحا في إلحاق ضرر وكي وعي كالضرر الذي ألحقه 1500 من مخربي حماس ومعهم آلاف آخرون، رعاع غزيون، تسللوا إلى إسرائيل في 7 أكتوبر.
القيادة العليا للجيش الإسرائيلي ولـ “الشاباك” اعترفت فوراً بالفشل وتحملت المسؤولية لتتمكن من التركيز على مهمتها لإبادة حماس. القيادة السياسية بالمقابل شطبت كلمة “مسؤولية” من القاموس وانشغلت كلها ببقاء شخصي وبتصفية حسابات سياسية، مثل منع وصول وزير الدفاع إلى ديوان رئيس الوزراء، وهذا في ذروة حرب! إذا ما أديرت هذه الحرب من داخل محلقة السيدة فلن نتمكن من الانتصار. ببساطة هكذا.
التهديد الذي علينا أكبر بكثير مما نجحت حماس من إحداثه حتى الآن. في بداية الأسبوع الماضي، شخص الإيرانيون فرصة لتجسيد نبوءة آية الله عليّ خامنئي عن خراب إسرائيل، وآمنوا أن بوسعهم تصفيتنا. رأوا الصدمة والدهشة من النتائج الرهيبة لهجمة حماس، وآمنوا بأن لحظة الضعف هذه هي لحظة مناسبة ليطلقوا علينا هجوماً أيضاً من لبنان وسوريا وحتى من إيران، يمحو الكيان الصهيوني.
ليس إسرائيل وحدها التي شخصت التهديد الوجودي، فالإدارة الأمريكية أيضاً أدركت أن إيران توشك على شن حرب إبادة على إسرائيل. الرئيس الأمريكي تسامى على الفور إلى حجم اللحظة، أزاح جانباً من رواسب الماضي، ووقف إلى جانبنا وأنقذ دولة إسرائيل. ليس أقل من هذا. لم تكن إسرائيل جاهزة في بداية الأسبوع الماضي لحرب متعددة الجبهات، والوقفة السريعة من القوة الأمريكية منعت نشوب حرب كهذه، حتى الآن على الأقل.
القراء المواظبون لهذه الصفحة يعرفون أني لست من مؤيدي الرئيس جو بايدن، لكن من لحظة نشوب الحرب يبدو كمن تلقى حقنة تحفيز ويبدي زعامة ليت القيادة الإسرائيلية تحلت بمثلها أيضاً. والدا بايدن كاثوليكيان ملتزمان، أعلماه عما ذاقه اليهود في المحرقة، وفي آخر أيامه أعد له التاريخ فرصة لإصلاح الظلم وإنقاذ الشعب اليهودي.
من الشمال ستفتح
كنا قريبين جداً الأسبوع الماضي من فتح جبهة أخرى مع “حزب الله” في الشمال. بعض من المتحملين للمسؤولية عن قصور السبت الأسود دفعوا إلى هذا، ربما على أمل محو الأخطاء التي أدت إلى النتائج الرهيبة. كثيرون في جهاز الأمن عارضوا وحذروا من أن إسرائيل غير جاهزة لحرب شاملة في عدة جبهات. بايدن حل لنا المعضلة وأوضح: ركزوا على حماس. إذا فتح “حزب الله” حرباً، فسيكون شغلهم وشغل إيران معنا.
حالياً، هذا تهديد التقطته بيروت وطهران معاً. إذا كان ثمة أحد ما يخافه الإيرانيون فهو الولايات المتحدة. النظام الإيراني يعرف بأن الأمريكيين قادرون على تفكيك نظامهم ونزع كل قدراته منه. “حزب الله” اليوم يكتفي باحتكاك مؤلم مع إسرائيل على طول الحدود الشمالية ويمتنع عن توسيع هذا الاحتكاك إلى معركة شاملة، كما أنه يدفع ثمناً على الاحتكاك، لكنه خسر حتى الآن نحو عشرين من رجاله. ومن ناحيته، هذه الخسائر دليل على أنه هو أيضاً يساهم في جهود “محور المقاومة”. عندما ستبدأ المناورة البرية في غزة، ربما يصعّد “حزب الله” الاحتكاك وقد يوسع مدى النار. فهل سيعرف كيف يحدد أعماله إلى ما دون شفا الحرب؟ لا يقين كهذا.
يعرف “حزب الله” بأن حرباً واسعة مع إسرائيل ستوقع خراباً عليه وعلى لبنان. وإذا كان سلاح الجو يبدأ في غزة باستنفاد بنك الأهداف الذي كان له، فإن لدى إسرائيل بنك أهداف في لبنان لن ينتهي حتى في مئة يوم قتال. ولا يزال التهديد في الجبهة الشمالية سيرافقنا طوال أيام المعركة، وسيتطلب من الجيش الإبقاء على احتياط لمعركة في الشمال، إضافة إلى القوات الكثيرة التي تنتشر هناك في الدفاع.
هناك من فسر وجود الرئيس ووزير الخارجية الأمريكيين في جلسات “كابينت الحرب” وكأن الولايات المتحدة تدير المعركة. هي لا تديرها. لكنها شريك فاعل في هذه الحرب، وكمن ستتحمل معنا المسؤولية عن النتائج، فإنها تطالب بمعرفة الخطط وبالتصميم مع إسرائيل لحدود المعركة.
يعطينا الأمريكيون كامل الإسناد لإبادة حماس وقدراتها العسكرية والسلطوية. لكنهم يطالبوننا بأن نبدأ أيضاً بالتفكير في اليوم التالي. “نهاية القتال ليست نهاية الحرب”، قال بايدن لرئيس الوزراء وللكابينت هذا الأسبوع. “نحن أيضاً تعلمنا هذا في العراق وأفغانستان”. وعليه، فبينما نخرج إلى الخطوة العسكرية التي تستهدف إبادة حماس سنضطر إلى البدء بتخطيط الفعل السياسي الذي سيأتي بعدها.
عندما ستبدأ المعركة البرية فلن تكون سريعة وحادة، مثلما نحب، بل بطيئة، عميقة وأليمة. ستتطلب منا كل مقدراتنا وقوانا، وإلى كثير من الحظ، ولا تزال قوى كهذه أخرى، حتى بعد عشرة أشهر من جهد منهاجي لتخريب المجتمع الإسرائيلي. مئات الآلاف الذين جندوا لن يسرحوا قريباً.
ألون بن دافيد
معاريف 20/10/2023
0 Comments